قصة كريم والصندوق الملعون، رحلة الانتقام والوفاء في قلب الصحراء

في قلب الصحراء المترامية الأطراف، كانت قرية الوديان تستقر بين كثبان رملية عالية. بيوتها كانت مبنية من الطين وأزقتها ضيقة، والناس يعرفون بعضهم بعضًا منذ أجيال طويلة. في الطرف الجنوبي من القرية، كان يعيش كريم في بيت صغير متآكل الجدران ورثه عن أبيه. كان رجلاً نحيلاً، سمرته تشهد على قسوة الشمس وعيناه تحملان بقايا أحلام لم تتحقق. زوجته، سلمى، كانت معروفة بجمالها، لكنها أيضًا كانت مشهورة بين نساء القرية بحدة لسانها وحرصها الشديد على المال.

إلى جوارهما، كان يعيش عبد الرزاق، إمام المسجد، وهو رجل حكيم يحترمه الجميع. كان عبد الرزاق يقف أحيانًا إلى جانب كريم عند شدته. في السوق، كان فارس يملك أكبر مخزن للتمور والحبوب، وهو رجل ذو مال وسلطة لم يرفض له أهل القرية طلبًا قط.

منذ شهور، بدأ المرض يتسلل إلى جسد كريم، فيرهقه السعال ويضعفه، ولم يعد يقوى على العمل في الحقول كما كان. حاول أن يخفي تعبه عن سلمى، لكنها كانت ترى أن ضعف الرجل بداية لسقوط بيته. كانت سلمى تقارن دائمًا بين حياة الفقر التي تعيشها مع كريم وبين بيوت الأغنياء في القرية، خاصة بيت فارس.

في إحدى الليالي، جلس كريم على عتبة البيت يراقب القمر بينما كان صدره يضيق من الألم. سلمى، التي كانت تعد العشاء، أطلقت كلمات جارحة تتهمه بالعجز والتقصير في إعالتها. حاول كريم أن يشرح لها أن المرض قاسٍ وأنه يحتاج بعض الوقت ليتعافى، لكنها لم تبدِ أي رحمة. اشتد النقاش بينهما حتى وصل إلى صراخ يسمعه الجيران. تدخلت أم حسان، جارة سلمى، محاولة تهدئة الموقف، لكن سلمى كانت قد اتخذت قرارها في تلك الليلة، طردت زوجها من البيت وهو لا يحمل سوى عباءته القديمة وعصاه الخشبية. خرج كريم إلى أزقة القرية المظلمة، لا يدري أين يذهب والبرد يلسع عظامه.

وقف أمام المسجد طويلًا ثم قرر أن يترك القرية إلى الصحراء. بدأ كريم رحلته المجهولة نحو الرمال، لا يعلم أن القدر يخبئ له ما لم يتخيله. كان الفجر يقترب حينما سار وحيدًا بين الكثبان. كانت خطواته بطيئة، لكن في قلبه إصرار غامض على المضي قدمًا. لم يكن يحمل سوى عباءته البالية وعصاه.

في الطريق، مر بجذع نخلة ميتة وجلس عنده ليستريح. تذكر كلام الشيخ عبد الرزاق حين قال له يومًا: “أحيانًا يا كريم لا نعرف الخير الذي يخبئه الله لنا إلا بعد أن نضيع كل ما نظنه مهمًا”. بينما كان يتأمل الصحراء، لمح من بعيد كلبًا نحيفًا يقترب بخطوات حذرة ويبدو عليه الجوع والعطش. توقف الكلب على مسافة يراقب كريم بعينين لامعتين. أخرج كريم كسرة خبز جافة كانت في جيبه ورماها إلى الكلب، فأكلها بشراهة. ابتسم كريم وشعر بشيء من الأنس بعد ساعات من الوحدة. تابع السير والكلب يلاحقه بخطوات ثابتة.

مع غروب الشمس، وجد كريم ظلًا لشجرة كبيرة فجلس عندها. اقترب الكلب وتمدد بجانبه ثم أغمض عينيه. في تلك الليلة، حلم كريم أنه يسير مع الكلب في طريق طويل ينتهي بباب عظيم من ذهب. استيقظ وهو لا يعرف معنى الحلم، لكنه شعر براحة غريبة.

في الصباح، قرر أن يبحث عن مكان أفضل يقيه حر الشمس ويتوافر فيه ماء للشرب. سارا معًا لساعات حتى وصلا إلى منخفض رملي فيه بئر قديم مغطى بالحجارة. رفع كريم الغطاء فوجد الماء فيه صافيًا، فشرب حتى ارتوى وملأ حفرة صغيرة للكلب ليشرب بدوره. كانت تلك اللحظة بداية صداقة غريبة بين رجل وكلب في قلب الصحراء. لم يكن كريم يعلم أن هذه الصداقة ستقوده يومًا إلى أغنى وأخطر لحظة في حياته.

مرت أيام وكريم يعيش بجوار البئر، يقتات على ما يصطاده من طيور أو ما يجده من نباتات برية، والكلب لا يفارقه لحظة. صار الكلب، الذي قرر كريم أن يسميه “وفي”، يخرج في الصباح باحثًا عن طعام، ثم يعود قبل الغروب محملاً بغنيمته.

في إحدى الليالي، كانت الرياح تعصف، فجلس كريم يضم عباءته حول جسده بينما الكلب يحدق في الظلام. سمع كريم فجأة أصواتًا بعيدة، كانها صراخ. نهض وهو ممسك بعصاه والكلب يركض أمامه باتجاه الصوت. وصلا إلى تلة رملية عالية، وهناك رأى عند أسفلها رجلًا ممددًا على الأرض، نصف جسده مدفون في الرمال. أسرع كريم لإنقاذه، فاكتشف أنه شيخ مسن يرتدي ثوبًا ممزقًا. جلس الشيخ يتنفس بصعوبة ثم همس: “احذر يا بني، الصحراء ليست كما تراها، هناك أشياء تدفن لسنوات وتنتظر من يكشفها”. قبل أن يسأله كريم عن معنى كلامه، غاب الشيخ عن وعيه وفارق الحياة بهدوء. حفر كريم في الرمال ودفنه هناك.

في تلك الليلة، لم يستطع النوم وظل يستعيد كلمات الشيخ. مع أول ضوء للفجر، بدأ “وفي” ينبح نباحًا متواصلًا ويتجه نحو الصحراء الشرقية. بعد مسافة طويلة، توقف الكلب عند شجرة وحيدة وسط الرمال، وأخذ يشم الأرض بإلحاح. انحنى كريم ليتفحص المكان ولاحظ أن التربة هنا أكثر ليونة. أخذ يحفر بعصاه ببطء. بعد ساعة من العمل المتواصل، اصطدمت يده بشيء صلب تحت الرمال، فإذا به غطاء خشبي عتيق. استعان بجذع غليظ ليقلبه، فظهر صندوق قديم مغطى بنقوش غريبة. اقترب الكلب بحذر ثم تراجع للخلف وهو يطلق أنينًا خافتًا.

جلس كريم لحظة ثم فتح الصندوق ببطء. لمع بريق ذهبي من داخله، فانكشفت أكياس صغيرة مليئة بالدنانير القديمة وحلي فضية. تجمد كريم في مكانه لا يصدق عينيه. وسط هذا اللمعان، لاحظ ورقة قديمة مطوية مربوطة بخيط أسود. أخرجها وفتحها بحذر، فإذا بها تحمل كلمات باهتة تقول: “هذا المال لليتامى ومن أخذه بغير حق لن يهنأ به”. ارتجف قلبه وتذكر كلمات الشيخ عبد الرازق عن ميراث اليتامى. جلس حتى غابت الشمس يفكر في مصير هذا الكنز. قرر أن يغلق الصندوق ويعيد دفنه مؤقتًا.

في تلك الليلة، حلم حلمًا مرعبًا، رأى فيه أطفالًا صغارًا يحدقون فيه بعيون باكية وأصواتهم تقول: “أعد حقنا”. استيقظ وهو يلهث، وعرف أن ما بدأ عند هذه الشجرة لن ينتهي بسهولة. استيقظ مع شروق الشمس وقد قرر أن يبتعد عن مكان الصندوق لبعض الوقت. لكن قبل أن يغادر، لمح من بعيد ثلاثة رجال يمتطون الجمال ويتجهون نحوه. تبادل الرجال نظرات صامتة ثم قال أحدهم: “لقد ضاع منا شيء ثمين، وإن وجدناه مع أحد فلن ينجو”. شعر كريم ببرودة تسري في عروقه. لحسن الحظ، لم ينتبه الرجال لمكان الحفر. بعد ساعة من التفتيش، غادروا متذمرين. أدرك كريم أن هذا الكنز ليس مجهولًا كما ظن.

في منتصف الليل، لمح كريم ظلًا يتحرك على الكثبان، تبعه ظل آخر ثم ثالث. أدرك أنهم نفس الغرباء. أطفأ النار سريعًا وجلس متخفيًا خلف كومة رمل. بدأوا يحفرون بهدوء مما جعل قلبه يخفق بعنف. أطلق الكلب نباحًا عاليًا وهو يركض نحوهم. انتهز كريم الفوضى وانقض عليهما بعصا غليظة. أمسك بالصندوق بسرعة وسحبه بعيدًا عن الشجرة. صرخ أحد الرجال: “لن تهرب بعيدًا، هذا المال ليس لك”. لكن كريم تجاهلهم وواصل الركض. أدرك أنه لم يعد مجرد رجل فقير بل أصبح حارسًا لسر ثقيل. قرر أن يختفي عن أنظار القرية.

اختار السير نحو الشمال حيث توجد واحات قليلة. بعد ساعات من السير، وصل إلى واحة صغيرة. كان هناك شيخ وقور يجلس قرب بئرها. دعاه الشيخ إلى الجلوس وسأله عن وجهته. قال الشيخ: “الأمان يا ابني ليس في المكان بل في صدرك”. لكن مع حلول الظلام، لمح كريم ظلين يتحركان قرب النخيل، فشعر أن الخطر تبعه حتى هنا. غادر الواحة في صمت.

بعد يومين من السير، لمح في الأفق قافلة ضخمة. اقترب منها بحذر. استقبله رجل في منتصف العمر يُدعى سالم. عرض سالم على كريم الانضمام إليهم مقابل أن يساعد في رعاية بعض الجمال. وافق كريم دون أن يذكر شيئًا عن الصندوق. الكلب كان يسير بجانبه يتأمل الغرباء بعينين متوجستين. لفت نظره رجل ضخم الجثة يُدعى أبو زيد، حارس القافلة. في تلك الليلة، شعر كريم بحركة قرب أمتعته، فرأى أبا زيد يفتش حقائبه. شعر أن الرجل يشك فيه.

في صباح أحد الأيام، بينما كان كريم يحضر الماء، تعثر صبي بعباءته فانكشفت زاوية الصندوق ولمع الذهب للحظة خاطفة. اتسعت عينا الصبي دهشة فأطلق صيحة جذبت انتباه بعض الرجال ومن بينهم أبو زيد. قال أبو زيد: “ما هذا الذي تحمله؟”. فرد كريم ببرود: “متاع قديم ورثته عن أبي”. جاء سالم وسأل عما يجري. حاول كريم التخفيف من الأمر. لكنه شعر أن العيون كلها تلاحقه. في تلك الليلة، تسلل ظلان بين الخيام متجهين نحو عباءة كريم. شعر الكلب بحركتهما فانتصب وأطلق نباحًا حادًا. استيقظ كريم ممسكًا بعصاه. خرج بعض رجال القافلة على أثر الضجيج، بينهم أبو زيد الذي أمسك باللص الأول. أمر سالم بطردهما.

مع أول ضوء للفجر، أعد كريم متاعه وقرر الرحيل. اقترب منه سالم وقال: “أتعلم أنك لن تجد الأمان في الهرب كما لم تجده بيننا”. لم يرد كريم ومضى في طريقه. بعد أيام، لاح أمامه سور مدينة عالية. دخل السوق الكبير، وفي اليوم التالي، لمح وجهًا يعرفه بين الحشد، كانت سلمى ترتدي ثوبًا فاخرًا، وخلفها يسير فارس. شعر كريم بمرارة حادة. عاد إلى الخان وهو يفكر كيف أصبحت سلمى زوجة فارس. جاءه صاحب الخان محذرًا: “انتبه، أحدهم يسأل عن رجل غريب جاء منذ أيام”. شعر كريم أن وجود فارس وسلمى في نفس المدينة ليس صدفة. في اليوم الثالث، لمح فارس يحدق فيه من بعيد بعينين ضيقتين.

صار كريم أكثر حذرًا، ونقل الصندوق إلى كهف سري خارج المدينة. بدأ يبيع بعض القطع الذهبية الصغيرة ليحولها إلى رأس مال يدخل به عالم التجارة. استعان بخبرة سالم الذي التقاه صدفة في السوق. ساعد سالم كريم على شراء قافلة صغيرة. مع مرور الشهور، صار اسمه يتردد بين التجار. في إحدى الليالي، جاءه خبر من سالم: “أحد رجال فارس يراقب مخازنك ويحصي قوافلك”. أدرك كريم أن فارس بدأ يشك في أمره.

قرر كريم التقدم خطوة أخرى، شراء أول أرض له في قريته القديمة. فارس علم بالأمر بعد أيام، فغضب بشدة. سلمى شعرت بقلق مبهم. في تلك الأثناء، تعرضت قافلة لكريم للهجوم. لكن سالم نصحه بأن يرد بقوة. أصبح اسم التاجر الغامض حديث القرية. فارس أمر رجاله بتتبع كل صفقة. كان أحد رجال فارس، ويدعى جابر، يتظاهر بالعمل مع سالم. في إحدى الليالي، تسلل جابر إلى الكهف الذي يخبئ فيه كريم الصندوق. لكن الكلب انتبه للحركة وبدأ ينبح بقوة، مما أجبر جابر على الهروب.

روى كريم ما حدث لسالم، لكن ملامح الأخير كانت متوترة على غير العادة. لم يعلم كريم أن سالم تلقى عرضًا من فارس: ذهب كثير مقابل كشف هوية التاجر الغامض. تزايدت الضغوط على فارس من سلمى. في تلك الأثناء، قرر كريم أن يبدأ مشروعًا أكبر، بناء مخازن للحبوب. لكن مع اقتراب التنفيذ، اختفت إحدى قوافله المحملة بالذهب. شعر كريم أن هناك خيانة من الداخل.

سالم قرر في النهاية أن يذهب إلى مجلس فارس. قال فارس: “اسمه فقط والباقي لك ذهب يكفيك عمرًا كاملًا”. همس سالم: “إنه رجل من خارج القرية”. فارس لم يقتنع ووعده بالمزيد إذا جلب له دليلًا حاسمًا. في اليوم التالي، مات أحد أكبر من يملك الأراضي في القرية فجأة دون ورثة. سالم، بدافع الطمع، سرب الخبر لفارس. وصل فارس بسرعة وبدأت المزايدات العنيفة. كريم دخل المجلس بنفسه ونجح في شراء الأرض بثمن مضاعف. خرج وهو يدرك أن هناك من يضربه من الداخل.

قرر كريم أن يختبر ولاء سالم. وضع خطة تتضمن قطعة أرض مزيفة للبيع. طلب منه أن يبقي الأمر سرًا. في اليوم التالي، كان فارس على علم بالأرض المزعومة. ابتسم كريم في داخله فقد تأكد أن الخيانة تأتي من أقرب الناس إليه. في تلك الأثناء، كان فارس يخطط لأول كمين مباشر. في ليلة مقمرة، خرج كريم متجهًا نحو الكهف. رجال فارس لحقوا به، لكن الكلب شعر بهم فنبح. غير كريم مساره نحو واد آخر تاركًا أثرًا مزيفًا.

في السوق، انتشر خبر عن قافلة كبيرة ستصل قريبًا. قرر كريم أن يجعل هذه القافلة فخًا لفارس ولسالم. دخلت القافلة الضخمة أبواب القرية، يتقدمها جمل يحمل صندوقًا خشبيًا مزخرفًا. اقترب سالم من كريم وهمس: “هذه القافلة فرصة عظيمة”. لكن كريم دخل في المزايدة ورفع الأسعار، وأربك فارس تمامًا. في النهاية، فاز كريم بأجمل القطع النادرة. عندما حاول فارس المغادرة، اعترضه أحد الصبية قائلًا: “هذا الرجل هو الذي كان يسأل عن التاجر الغامض”.

في المساء، وضع كريم خطة أخيرة للايقاع بسالم. في ليلة هادئة، استدعاه وقال له: “غدًا سأذهب إلى الكهف لجلب الذهب، لكني أحتاجك معي”. عينا سالم اتسعتا. كريم أوصاه ألا يخبر أحدًا. لكن في الخفاء، أرسل مرسولًا سريًا إلى فارس يخبره أن كريم ذاهب إلى الصحراء وحده ومعه ثروة هائلة. مع طلوع الفجر، خرج كريم وسالم نحو واد ضيق. عند منتصف الطريق، اختفى الكلب، فأرسل كريم سالمًا للبحث عنه. بينما كان سالم يبتعد، ظهرت مجموعة فارس محاصرة الطريق. عاد سالم مسرعًا وعيناه تلمعان بخوف. وقف كريم بثبات وقال: “أخيرًا اجتمعتم”. صرخ فارس: “أين الذهب أيها المحتال؟”. ابتسم كريم وقال: “ربما ستعرف بعد أن تكتشف من الذي باعك الوهم”. التفت فارس نحو سالم بغضب.

سرعان ما تحول الموقف إلى صراع بين رجال فارس وسالم. ارتفع صوت سالم محاولًا الدفاع عن نفسه، لكنه انكشف أمام الجميع حين صرخ أحد رجال فارس: “أنت الذي بعثت لنا الرسائل الكاذبة”. أمر فارس رجاله بالقبض على سالم. ثم أشار كريم بيده إلى الصحراء، فظهر الكلب يقود قافلة جمال محملة ببضائع نادرة. كانت تلك البضائع ملكًا لفارس لكنها بيعت في مزاد علني بسبب ديونه. عند رؤية ذلك، تزلزل قلب فارس وعرف أن ما يملكه لم يعد له. صاح أحد رجال القرية: “الممتلكات التي في السوق الآن باسم كريم حتى بيتك يا فارس أصبح في المزاد”. تراجع فارس ووجهه يشتعل بالخزي. سالم حاول الهرب، لكن الكلب اعترض طريقه. اقترب كريم من فارس وقال: “الثروة مثل السراب، تراها أمامك ثم تختفي كما اختفيت أنت عن الحق”. فارس أطرق رأسه ولم يجد كلمة يرد بها.

عاد كريم إلى القرية على ظهر جمله، والناس يحيطون به. بعد سقوط فارس، بدأت سلمى تلاحظ التغيرات القاتمة في حياتها. في إحدى الأمسيات، عاد فارس متعبًا وقال لها: “انتهى كل شيء يا سلمى، لا بيت ولا أرض ولا حتى احترام”. قالت له ببرود: “لا أريد أن أعيش مع رجل مكسور”. في اليوم التالي، رحل فارس تاركًا الباب مفتوحًا.

بعد أيام، بدأت أخبار توسع كريم تصل إلى سلمى. في إحدى الليالي، طرق بابها مرسول من قصر كريم يحمل عرضًا للعمل في القصر مقابل أجر مغر. وافقت سلمى على الفور دون أن تعلم أنها تمشي إلى فخ. في الصباح، دخلت القصر ورأت كريم جالسًا على كرسي فخم. قال لها: “مرحبًا بك في مكانك الجديد، هنا ستعملين في المطبخ وتنظفين أروقة القصر”. كانت كل خطوة تخطوها تشعرها بالذل.

في تلك الأثناء، كان سالم يتردد على القرية سرا. أما فارس، فقد لجأ إلى العمل كحارس في مخازن القصر. في صباح يوم قائظ، كان كريم يتلقى تقريرًا من أحد رجاله عن تحركات سالم. في الليل، أرسل كريم رجاله لمداهمة المكان الذي يلتقي فيه سالم بالغرباء، فوجدوه يتفاوض على بيع خرائط لأراضي كريم. امسكوه متلبسًا وساقوه إلى القصر. قال له كريم: “الخيانة الثانية يا سالم”. أمر حراسه بأخذه إلى السجن. ارتجفت سلمى لم تصدق ما تراه.

مرت أيام ثقيلة على القصر، وكان فارس يحاول كسب ثقة كريم بعمله في المخازن. في أحد الأيام، اكتشف كريم أن بعض البضائع الثمينة اختفت. وضع حارسًا متنكرًا يراقب فارس ليلاً. وبالفعل، ضبطه الحارس وهو يسرق. في الصباح، استدعى كريم فارسًا وقال له: “أتعلَم ما أسوأ من أن تكون فقيرًا؟ أن تكون خائنًا وأحمقًا في الوقت نفسه”. أمر الحراس بتقييده وإخراجه نحو السجن نفسه الذي يضم سالمًا. وقفت سلمى عاجزة ترى زوجها يساق مكبلًا.

بعد سجن فارس، أصبحت سلمى وحيدة تمامًا. أصبح كريم يتركها لأعمال شاقة لا تناسب مكانتها السابقة. وفي إحدى الليالي، دعا كريم وجهاء القرية لمأدبة ضخمة، وجعل سلمى هي من تقدم الطعام على المائدة. تعمد أن يناديها باسمها أمام الحاضرين: “يا سلمى، أسرعي بالماء للضيوف”. كانت تشعر بالاهانة.

في اليوم التالي، جاءها أحد الحراس بخبر أن فارس حاول الهرب وفشل، فأضيفت إلى عقوبته سنوات أخرى. تملّكها الإحباط وبدأت تتذكر اللحظة التي طردت فيها كريم. استيقظت على طرقات عنيفة على باب غرفتها. سارت نحو البهو حيث كان كريم ينتظرها وحوله وجهاء القرية. قال بصوت قاسٍ: “اليوم ستشهدين على أمر لن تنسيه ما حييت”. ثم أشاره إلى الحراس فجاؤوا بفارس من السجن مقيدًا وهزيلًا. قال كريم: “هذا الرجل الذي اخترتيه على زوجك الأول خانك قبل أن يخونني”. أمر الحراس بفصل فارس عنها. ثم اقترب من سلمى وهمس: “العدالة أحيانًا تحتاج وقتًا، لكنها حين تأتي، تعيد كل شيء إلى نصابه”. وقف أمام الجميع وروى لهم كيف طرد من بيته وكيف لجا إلى الصحراء حتى وجد الكنز. التفت إلى سلمى قائلًا: “كنت سبب سقوطي، وها أنت اليوم شاهدة على قيامي”. أمر بإطلاق سراحها من عملها، لكن مع منعها من دخول القرية مرة أخرى. غادرت سلمى القصر وهي تدرك أن المال والجاه زائلان. أما كريم، فجلس على شرفته والكلب العجوز بجانبه، يبتسم بهدوء

قصة نورا وسالم: عندما يولد الأمل من رحم الظلام والمعاناة
قصة مؤامرة في ليلة الزفاف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *